تمهل … ياشهر رمضان 

للكاتب الأستاذ : عبدالله أبو رشيد 
 
يُقبل علينا رمضان، فنُقبِل عليه بكل ما فينا من شوق، كأننا نلقاه للمرة الأولى، أو كأننا نخشى أن لا نلقاه مرةً أخرى. تضيء القلوب قبل الشوارع، وتُغسل الأرواح بماء التوبة قبل أن تُغسل الأيدي استعداداً للإفطار، وتُرفَع الأكفّ نحو السماء بحثاً عن رحمةٍ ورضا.  
يأتي رمضان، فيتبدّل نبض الحياة... تغدو الأيام أخفّ، والليالي أطول لكنها أحبّ. نقترب من أنفسنا، ومن الله، نفتح صفحة جديدة نخطّ فيها خيباتنا، ثم نبلّلها بدموع التائبين، ونرجو أن تُمحى. لكنه، كما جاء سريعاً، يمضي سريعاً... ومع كل غروبٍ من أيامه، نشعر بأن شيئاً فينا ينقص، وبأن ساعة الوداع تقترب بخطى ثقيلة.  
 
ويبلغ القلب ذروته من الحسرة، حين نصل إلى الليلة السابعة والعشرين... حيث تبدأ نبرة المساجد تتغيّر، ويعلو صوت القرّاء في المحافل القرآنية بنداء خاشع: "تمهّل يا رمضان… لا تعجل بالرحيل." كأنهم يرجونه أن يطيل المكث، أن يتأنّى، أن يمهل قلبًا ما شبع من المناجاة، وروحًا ما زالت تكتشف لذّة القرب من الله.  
 
وتتعالى الكلمات: "ودعوه يا كرام، يا شهر الصيام، عليك الصلاة، عليك السلام…" عبارات تخرج من حناجر خاشعة، لا تُنشد بل تُبكى، كأنّ شهر رمضان روح تُشيّع، لا زمن يُودّع. حتى "المسحراتي"، الذي كان يطوف على البيوت منادياً أهلها بأسمائهم، يُغيّر نبرته في تلك الليالي، فلا يوقظ للنزول، بل يوقظ للوداع، ويكتفي بعبارات منكسرة: "في أمان الله يا رمضان…"  
 
صوته لا يطرق الأبواب، بل يطرق القلب، يوصل رسالة الفقد دون أن يُعلنها صراحة: أن لحظات الرحيل بدأت. يا رمضان، كيف تترك فينا هذا الأثر؟ وكيف لثلاثين يوماً أن تُبدّل وجه الحياة؟ تعود بعد أحد عشر شهراً، فنُرتب كل شيء لك، ونحاول أن نُصلح ما أفسدته أعوامنا، ثم ترحل كأنك لم تكن، لكننا نحن… لم نعد كما كنا.  
 
ترحل يا رمضان، وتأخذ معك لحظات صدقٍ نادرة، ودموعاً لا تنزل إلا في محرابك، وسجدةً كنّا نظن أنها ستغيّرنا للأبد. ويشتدّ الوجع… لأننا لا نعلم: هل سنبلغه من جديد؟ هل سيكون لنا لقاء آخر في عمرٍ لا ندري ما بقي منه؟ هل نُدرَج ضمن قائمة "المتوفّين قبل رمضان القادم"، أم "الغانمين في موسمه القادم"؟  
 
يا رمضان… إن كنت لابدّ راحلاً، فكن شاهداً علينا لا خصيماً، وإن كنت مودّعاً، فاحمل في طياتك دعواتنا، وخذ منّا وعداً أننا سنشتاق إليك من أعماقنا، وسننتظر قدومك كالعائد من سفرٍ طويل.  
 
يا رب، يا واسع العفو، يا مُجيب الدعاء، بلغنا رمضان أعواماً مديدة، وقلوبنا أنقى، وأرواحنا أكثر قربًا، وذنوبنا أقل، واجعلنا من أهل ليلة القدر، ومن عُتقاء الشهر، ولا تجعل هذا رمضان آخر عهدنا بك.  
 
وإن كان لا بد من الختام… فليكن "مسك الختام" رعاية الأيتام. ولنُترجم دموع وداع الشهر إلى فرح في عيون الصغار، من خلال دعم الجمعيات الخيرية بالمساهمات في كسوة العيد، وإدخال السرور إلى قلوبٍ طالما خفَتَ فيها صوت الفرح.  
 
لنجعلهم يعيشون العيد وكأننا جميعًا آباؤهم، نمسح عنهم وجع الفقد، ونملأ فراغهم بأيدٍ محسنة، لا ترجو سوى وجه الله. فلنستشعر حاجتهم كما نستشعر قُرب انتهاء رمضان، بنفس التنهيدة، فـالحرمان واحد… حرمان الشهر، وحرمان الحنان.  
تمهّل يا رمضان… فإن في القلب متّسعًا لك دومًا، وفي يد المحسنين متّسع لفرحة يتيم.
تمهل … ياشهر رمضان 
آراء ومقالات